تصوّر مقترح لتطوير نظام الثانوية العامة في مصر ليصبح أكثر واقعية وإنصافًا


من المسلم به أنه لا يوجد نظام تعليمي يتصف بالكمال، فالتعليم العام عملية معقدة متعددة الجوانب والمسارات، ومتنوعة في مكوناتها وأنشطتها وعملياتها. لذا أصبح تطوير التعليم والخروج به من أزمته الراهنة مسؤولية قومية لا تقتصر على وزير أو وزارة أو متخصصين فقط، بل هي عمل تشارك فيه جميع المؤسسات والهيئات والأفراد، وتعكس آمال الرأي العام وتطلعاته. كما أن قضايا التعليم لم تعد حكرًا على المتخصصين، بل أصبحت قضية رأي عام ومسؤولية يتحملها المجتمع بأسره من خلال توعية الجميع بها وإتاحة الفرصة لمشاركة معظم أفراد المجتمع على اختلاف مواقعهم حول ملامح التطوير وأهدافه.يتضح أن عملية تطوير التعليم عامة، والتعليم الثانوي خاصة، عملية مهمة وحساسة تتطلب مشاركة مجتمعية واسعة، وفكرًا عميقًا، وإحاطة تامة بواقع المجتمع وحاضره ومستقبله، ولا سيما في ظل التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية التي لا يمكن تجاهلها، بل يجب مواجهتها بوعي وحزم. مما سبق، يتضح أن نظام الدراسة والامتحان لشهادة التعليم الثانوي العام في مصر، وكذلك نظام القبول بالتعليم العالي، بحاجة ملحة إلى تطوير لمواجهة أوجه القصور والخلل. ومن ثم، يجب وضع تصور واضح لكيفية تطوير نظام الدراسة والامتحان بالثانوية العامة بما يتوافق مع سياسات القبول في التعليم العالي. تعاني الثانوية العامة في مصر من ضغوط نفسية شديدة، وتحديات تربوية وتعليمية، إضافةً إلى اعتماد مفرط على الحفظ والتلقين، ما يجعلها غير واقعية وغير منصفة في قياس قدرات الطلاب. كما تنتشر ظاهرة الغش بطرق متعددة، وهي مشكلة يصعب حلها لأنها مسؤولية مشتركة تقع على عاتق المجتمع بأسره: أولياء الأمور، وزارة التربية والتعليم، المعلمون، المراقبون، رؤساء اللجان، الأمن، وحتى المؤسسات الدينية. لذا يحتاج هذا النظام إلى إصلاح جذري يحقق العدالة، ويعزز التنوع، ويرتبط بالواقع. يبرر بعض أولياء الأمور الغش بقولهم: "الجميع يفعل ذلك، ولو لم أفعل سيتعرض ابني للظلم. أريد أن يحصل ابني على مجموع مماثل لزملائه"، بينما يؤكد آخرون: "الحلال بيّن والحرام بيّن، والخطأ خطأ ولو فعله الجميع، والصواب حق وإن لم يفعله أحد". وأقول: لا يجوز استبدال الخطأ بالخطيئة مهما كانت المبررات. يجب أن ندرك أن مجموع الثانوية العامة ليس المقياس الوحيد لتقييم قدرات الشخص أو تحديد مستقبله، فهناك عوامل أخرى مؤثرة مثل المهارات الشخصية، القدرات الإبداعية، الاجتهاد، والخبرات الحياتية. لذا فإن هذا المجموع لا يعكس بالضرورة إمكانات الطالب الحقيقية أو قدراته في مجالات أخرى. يُعد مكتب التنسيق حتى الآن النظام الأكثر عدلًا نسبيًا، لكن إذا أردنا إصلاحًا حقيقيًا، فعلينا مواجهة الفوضى الحالية بشجاعة. نحتاج إلى نظام قبول أكثر إنصافًا، يعتمد على اختبارات قدرات حقيقية، ويقيم الطالب وفقًا لاستعداده العلمي والنفسي والمهني، لا وفقًا لدرجات الامتحانات فقط. فليس كل من حصل على 100% يصلح ليكون طبيبًا، كما أن من حصل على 80% ليس بالضرورة فاشلًا. وفي الجامعات، نحاول تصحيح هذا المسار بقدر المستطاع. إذ نجد أن نسبة النجاح في السنة الأولى لا تتعدى 30–35% في كثير من الكليات، ويُفصل ما لا يقل عن 10–15% من الطلاب سنويًا لعدم قدرتهم على مواصلة الدراسة. كما أن بعض الجامعات الأهلية والخاصة بدأت بتطبيق اختبارات إضافية قبل السماح بالالتحاق بالكليات الطبية. لذلك، يجب العمل على المحاور التالية: أولًا: تطوير المناهج الدراسية ربط المحتوى بالواقع: تدريس مهارات حياتية مثل التفكير النقدي، العمل الجماعي، وريادة الأعمال، مع إدخال موضوعات معاصرة مثل البيئة، الذكاء الاصطناعي، والتحول الرقمي. إلغاء الحشو والتكرار: تقليص حجم المناهج والتركيز على الفهم العميق بدلاً من الكم. الاهتمام بالتعليم الفني والتكنولوجي: رفع جودة التعليم الفني وربطه بسوق العمل، ودمج المدارس التكنولوجية التطبيقية ليكون مسارًا مكافئًا للتعليم العام. ثانيًا: تأهيل المعلم وتطوير بيئة التعلم تأهيل المعلمين تربويًا وتكنولوجيًا من خلال برامج تدريبية دورية على طرق التدريس الحديثة والتقييم التكويني. تحفيز المعلمين المتميزين ماديًا ومعنويًا. تحسين البنية التحتية للمدارس: تقليل كثافة الفصول، تجهيزها بتكنولوجيا تعليمية، وتوفير الإنترنت. دعم الصحة النفسية للطلاب عبر تخصيص مرشد نفسي تربوي في كل مدرسة. تنظيم ورش عمل لمساعدة الطلاب على إدارة التوتر وتحديد مساراتهم المهنية. ثالثًا: إصلاح نظام التقييم والامتحانات تطبيق نظام تقييم تراكمي متعدد: بحيث لا تتجاوز نسبة الامتحان النهائي 60% من المجموع الكلي. ويتوزع الامتحان بين أسئلة اختيار من متعدد (20%)، وأسئلة قصيرة (20%)، ومهام تعتمد على التفكير والإبداع (20%). تخصيص 40% لاختبارات القبول الجامعي، تشمل 20% للتخصص و20% لاختبارات القدرات العامة. استحداث امتحان وطني موحد في منتصف الدراسة الجامعية (مشابه لامتحان مزاولة المهنة) لتقييم الطلاب قبل انتقالهم للمرحلة الإكلينيكية. رابعًا: إصلاح منظومة القبول الجامعي إعادة هيكلة نظام التنسيق ليصبح أكثر مرونة وعدالة، وذلك من خلال إلغاء الاعتماد الكامل على المجموع واستبداله باختبارات قدرات معيارية. توحيد التنسيق بين الجامعات الحكومية والأهلية والخاصة لمنع ازدواج الترشيحات وضمان توزيع عادل للمقاعد. فتح مسارات قبول متعددة وفقًا لميول الطالب وتخصصه، والاعتراف بالشهادات الفنية والتكنولوجية كمسارات بديلة. خامسًا: تنويع المسارات التعليمية إتاحة مسارات متساوية القيمة: الأكاديمي (علمي وأدبي)، الفني (زراعي – صناعي – تجاري)، التكنولوجي، والمهني. تعزيز ثقافة احترام جميع المهن والتخصصات دون تمييز طبقي أو اجتماعي. الخاتمة: إن تطوير الثانوية العامة ليس مجرد تعديل لشكل الامتحان، بل هو تحول شامل في فلسفة التعليم: من الضغط إلى التمكين، ومن الحفظ إلى الإبداع، ومن الخوف إلى المتعة في ا